بقلم: الشیخ عصام تلیمة
قرأت - كما قرأ الكثیر- تصریح شیخی الدكتور یوسف القرضاوی، حول فتوى الإمام الراحل الشیخ محمود شلتوت، عن جواز التعبد بالمذهب الجعفری الشیعی، وذلك ردا على سؤال صحفی إذا ما كان فضیلة الشیخ محمود شلتوت - رحمه الله - قد أصدر فتواه بجواز التعبد على المذاهب الإسلامیة الثابتة والمعروفة والمتبعة، ومنها مذهب الشیعة الإمامیة الجعفری"، فبادره الشیخ بالإجابة: "أنا أقول لك: هات لی الفتوى دی «هذه» فی أی كتاب من كتبه.. أنا لم أر هذه الفتوى.. أی واحد منكم فلیقول إنی «أی السائل» شفتها فی كتاب كذا أو مجلة كذا".
وأضاف : "أنا عایشت الشیخ شلتوت عدة سنوات، وكنت من أقرب الناس إلیه، ما رأیته قال هذا.. أین كتبها ؟ وفی أی كتاب من كتبه ؟ أنا أخرجت كتب الشیخ شلتوت الأربعة الأساسیة.. كتاب الإسلام عقیدة وشریعة، وكتاب فتاوى الشیخ شلتوت، والأجزاء العشرة الأولى فی كتاب التفسیر، وكتاب من توجیهات الإسلام، وكانت هذه ضائعة فی الصحف والمجلات والإذاعة، فجمعت هذه الأشیاء أنا وزمیلی الأخ أحمد العسال".
•ملاحظات وتأملات
ولی وقفات وملاحظات مع تصریح شیخنا القرضاوی حول نفیه وجود فتوى لشلتوت بجواز التعبد على المذهب الجعفری ، بغض النظر عن موقفنا من فتوى شلتوت ، فلیس مقالی هنا نقاشا لرأی شلتوت صحة أو خطأ ، بل مقالی لإثبات أو نفی صدور فتوى عن شلتوت بهذا القول.
أولاً : لقد صدرت عن شلتوت فعلا فتوى بهذا الأمر، فالفتوى موجودة بنصها فی مجلة «رسالة الإسلام» التی كانت تصدر عن دار التقریب بین المذاهب الإسلامیة بالقاهرة، وقد جعلت عنوانها: «فتوى تاریخیة»، ومهدت للفتوى بهذه الكلمة : «تفسح «كلمة التحریر» صدر هذا العدد للحدیث التاریخی الخطیر الشأن الذی أدلى به السید صاحب الفضیلة الأستاذ الأكبر الشیخ محمود شلتوت شیخ الجامع الأزهر، مد الله فی عمره، وأدام نفع الأمة الإسلامیة بعلمه وفضله وصالح سعیه».
وبعد بیان من الشیخ شلتوت حول منهج كلیة الشریعة فی جامعة الأزهر الجدید، جاءت فتواه بهذه الصیغة:
« قیل لفضیلته : إن بعض الناس یرى أنه یجب على المسلم لكی تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحیح: أن یقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، ولیس من بینها مذهب الشیعة الإمامیة، ولا الشیعة الزیدیة، فهل توافقون فضیلتكم على هذا الرأی على إطلاقه؛ فتمنعون تقلید مذهب الشیعة الإمامیة الاثنا عشریة مثلاً ؟
فأجاب فضیلته:
1-إن الإسلام لا یوجب على أحد من أتباعه اتبّاع مذهب معین ، بل نقول : إن لكل مسلم الحق فی أن یقلد بادئ ذی بدء أی مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحیحاً، والمدونة أحكامها فی كتبها الخاصة ، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ینتقل إلى غیره أی مذهب كان ولا حرج علیه فی شیء من ذلك.
2- إن مذهب الجعفریة المعروف بمذهب الشیعة الإمامیة الاثنا عشریة مذهب یجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة.
فینبغی للمسلمین أن یعرفوا ذلك ، وأن یتخلصوا من العصبیة بغیر الحق لمذاهب معینة، فما كان دین الله وما كانت شریعته بتابعة لمذهب ، أو مقصورة على مذهب ، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى یجوز لمن لیس أهلا للنظر والاجتهاد تقلیدهم ، والعمل بما یقررونه فی فقههم، ولا فرق فی ذلك بین العبادات والمعاملات »[1] . انتهى نص كلام شلتوت.
وفی الحقیقة إن نص هذه الفتوى كان تصریحا من الشیخ شلتوت فی البدایة، وذلك بعد أن صرح شلتوت فی بدایة عام 1959م لجریدة «الحیاة» بعزمه على التقریب بین المذاهب، والمباشرة بتدریس الفقه الشیعی فی كلیة الشریعة ضمن برامجها الجدیده. مما جعل مندوب جریدة «الشعب» السید محمود سلیمة یسأل هذا السؤال وجیب شلتوت، وهو منا نقلته مجلة «رسالة الإسلام» بعنوان: فتوى تاریخیة، وقامت مجلة «الأزهر» بنشره بعنوان: «بین السنة والشیعة» وقد نشرت الحوار كاملا.
ثانیا : من الواضح أن شلتوت كان مقتنعا بفتواه، ولم تكن مجرد فتوى خرجت وانتهى الأمر، فبعدها بفترة وجیزة نشرت مجلة «المجتمع العربی »[2] حواراً مطولاً مع شلتوت ، وقد أعادت مجلة «الأزهر» نشر الحوار بالكامل أیضا، وجاء فیه هذا السؤال: هل یعنی تدریس مذهب الشیعة فی الأزهر أنه جائز التطبیق، أم أنه یدرس لمجرد العلم والتحصیل وزیادة معارف رجل الدین؟
فأجاب شلتوت : لسنا حریصین على أن تكون دراستنا فی الأزهر لمجرد العلم والتحصیل، إنما نحن ندرس للاستیعاب والفهم، ثم التطبیق والعمل بكل ما یمكن العمل به ، وفقه الشیعة مأخوذ ببعض أحكامه فی كثیر من القانون عندنا، وكثیر من علمائنا عمل ببعض أحكام العبادات عندهم، ونحن إنما نرجع إلى الكتاب والسنة، فمتى لم یخالف الرأی أصلا من الأصول الإسلامیة الصحیحة، ولم یتعارض مع نص شرعی، فلا بأس من تطبیقه ، والأخذ به ، وذك هو التقریب المنشود، والتیسیر المرجو.[3]
ولم تقف ردود الأفعال حول فتوى شلتوت عند هذ الحد ، بل تفاعل معها تأییداً ونقدا، عدد من العلماء والمشایخ، فممّن أیدوا : الدكتور محمد البهی الذی كتب مؤیداً لتوجه الفتوى وشلتوت مقالا بعنوان: « مع المذاهب الإسلامیة »[4] ، وفی نفس العدد كتب الأستاذ محمود الشرقاوی مقالاً بعنوان: « الأزهر ومذاهب الفقه الإسلامی »[5] .
أما مجلة رسالة الإسلام ، فقد كتب فی العدد التالی للفتوى العدد الشیخ محمد تقی القمی السكرتیر العام لجماعة التقریب مقالا بعنوان: «قصة التقریب»، یشید بالفتوى ، وبجهود شلتوت فی التقریب[6] ، وتلاه فی نفس العدد الشیخ محمد محمد المدنی رئیس تحریر مجلة «رسالة الإسلام» وعمید كلیة الشریعة بجامعة الأزهر، بمقال بعنوان: «رجة البعث فی كلیة الشریعة» یؤید فیه فتوى شلتوت ، ویسهب فی الرد على المخالفین للفتوى[7] ، وفی نفس العدد نشر الشیخ محمد الغزالی مقالاً بعنوان: « على أوائل » الطریق [8] وقد ناقش المخالفین لفتوى شلتوت ، ودافع عن الفتوى ، بطریقة الحوار الساخر المعهودة من الشیخ الغزالی رحمه الله.
على أن هذه الفتوى لم تنل إجماعاً من الأزهریین كما ذكرت ، بل لم تنل أغلبیة كذلك ، إنما نالت موافقة أعضاء جماعة التقریب ، باستثناء من كان فی الجماعة وخرج ، كالشیخ عبد اللطیف السبكی رئیس لجنة الفتوى وشیخ الحنابلة بالأزهر ، الذی كتب مقالاً شدید اللهجة فی التقریب بین السنة والشیعة ، وبأنه وهم لا حقیقة له ، وأنه من طرف واحد السنة فقط[9] ، وذلك قبل صدور فتوى شلتوت بسنوات ، وكتب معه مهاجما الفكرة ، الشیخ محمد عرفة ، والأستاذ محب الدین الخطیب.[10]
•هناك فی النفی
ثالثا : على أنی أتفهم نفی القرضاوی والعسال للفتوى ، وأنها لیست فی تراث شلتوت ، وهما أخبر الناس بتراثه ، فقد قاما بجمعه ، وتبویبه ، وإخراجه ، فهما مصیبان فی أن الفتوى لیست فی تراث شلتوت المجموع فی كتبه الأربعة: الإسلام عقیدة وشریعة الفتاوى التفسیر من توجیهات الإسلام.
وعلة أنهما لم یجدا الفتوى فی الكتب السابقة لشلتوت ، وهی تمثل كتبه الرئیسة : أن كتب شلتوت طبعت قبل صدور هذه الفتوى ، فبالتتبع لكتب شلتوت وتاریخ الطبع، نجدها كلها نشرت أو جمعت وأعدت للطبع قبل صدور فتواه موضوع المقال ، فكتاب «الإسلام عقیدة وشریعة» صدر فی شهر نوفمبر سنة 1959م، ویتضح ذلك من حوار دار بین شلتوت وطه حسین بحضور مستشرق، وقد أهداه شلتوت نسخة، وقال له: من حسن الحظ أنكم تزورونی الیوم وقد انتهت المطبعة من طبع كتابی «الإسلام عقیدة وشریعة»[11] ، أما كتاب «الفتاوى» فقد طبع إما معه فی نفس الشهر، أو فی شهر دیسمبر، فقد كتب الدكتور محمد البهی تعریفا بالكتاب فی مجلة الأزهر، فی عدد شهر ینایر سنة 1960م[12] . ومعنى هذا أن الكتاب صدر فی شهر دیسمبر 1959م. أما كتاب «من توجیهات الإسلام» فقد صدر أیضا فی نهایة عام 1959م.
أما تفسیر شلتوت فلم یصدره الأزهر كما أصدر كتب شلتوت الثلاث ، وذلك بسبب نفاد الرصید المالی فی الإدارة العامة للثقافة الإسلامیة بالأزهر لعام 1959م ، فطبعته دار القلم والتی صارت دار الشروق فیما بعد، وصدرت الطبعة الأولى منه مطلع سنة 1960م، ومعنى هذا أن كل كتب شلتوت التی قام القرضاوی والعسال بجمعها، جمعت قبل صدور الفتوى أیضا.
•هل جمع كل تراث شلتوت ؟
رابعا : كما أن تراث شلتوت لم یجمع جمعا كاملا، رغم محاولة الأزهر متمثلة فی تكلیف القرضاوی والعسال بجمع ما أنتجه شلتوت من مقالات وبحوث فی كتب ، وهو أیضا ما یبرر ما صرح به الشیخ القرضاوی ، فالقرضاوی والعسال كلاهما سافر إلى قطر ، فی مطلع الستینیات من القرن الماضی، وقد صدرت كل كتب شلتوت بین عامی: 1959م، و1960م، وسافر القرضاوی إلى قطر عام 1961م ، وسافر العسال قبله بعام «1960م » [13] ، بینما توفی شلتوت فی دیسمبر 1963م ، وفی هذه الفترة كانت هناك بحوث ومقالات وتصریحات مهمة جدا لشلتوت ولم تجمع بعد، وقد قابلت كثیرا من المقالات والمقابلات والفتاوى المهمة لشلتوت لم أرها فیما جمع من كتب ، كما أن جمع القرضاوی والعسال لم یكن متقصیا لكل تراث الرجل، فقد جمعوه من مظانه ، ومع ذلك فاتهم بعض الشیء مما نشر، ومن بین هؤلاء مقالات لشلتوت فی مجلات وجرائد الإخوان المسلمین ، وفی المجلات المستأجرة للإخوان كالمباحث القضائیة التی كتب فیها شلتوت عدة مقالات.
هذه وقفات مع تصریح شیخنا القرضاوی ، وتأكید شیخنا العسال له ، أردت أن أضع هذه الحقائق أمامهما ، بغض النظر عن موافقتنا أو مخالفتنا للعلامة شلتوت فی فتواه ، وبغض النظر عن موقف العلماء والقراء من فتوى شلتوت تأییدا أو مخالفة، والله یقول الحق وهو یهدی السبیل .
________________________________________
•باحث شرعی مصری مقیم فی قطر
•نقلا عن موقع إسلام أون لاین
1- انظر: مجلة «رسالة الإسلام» الفصلیة، العدد الثالث من السنة الحادیة عشرة الصادر فی محرم 1379هـ یولیو 1959م. ص: 228،227.
2- انظر: مجلة المجتمع العربی العدد الثانی والثلاثون الصادر فی شهر أغسطس 1959م.
3- انظر: مجلة الأزهر العدد الثالث المجلد الحادی والثلاثون الصادر فی ربیع الأول 1379هـ سبتمبر 1959م. ص: 362.
4- انظر: مجلة الأزهر العدد الثانی من المجلد الحادی والثلاثین، الصادر فی غرة صفر سنة 1972هـ أغسطس سنة 1959م ص:137-141.
5- انظر: المصدر السابق ص: 142-146.
6- انظر: مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادیة عشرة الصادر فی جمادى الأولى 1397هـ سبتمبر 1959م ص: 348-359.
7- انظر: مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادیة عشرة الصادر فی جمادى الأولى 1379هـ سبتمبر 1959م ص: 373-388. ومجلة «الأزهر» العدد السادس من المجلد الحادی والثلاثین الصادر فی جمادى الآخرة 1379هـ دیسمبر 1959م. ص:
526-536.
8- انظر: مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادیة عشرة الصادر فی جمادى الأولى 1379هـ سبتمبر 1959م ص: 412-416
9- انظر: مقال «طوائف بهائیة وكباشیة ثم جماعة التقریب» للشیخ عبد اللطیف السبكی، المنشور فی مجلة «الأزهر» فی العدد الثالث من السنة الرابعة والعشرین، الصادر فی ربیع الأول 1372هـ 19 من نوفمبر 1952م.
10-كتب محب الدین الخطیب عدة مقالات فی مجلة الأزهر، یهاجم فكرة التقریب بین السنة والشیعة، بل وله كتاب «الخطوط العریضة» فیه نقاش لأفكار الشیعة ومعتقداتهم.
11- انظر: مجلة الأزهر العددان الرابع والخامس من المجلد الحادی والثلاثین الصادر فی جمادى الأولى 1379هـ نوفمبر 1959م ص: 496 .
12- انظر: مجلة الأزهر العدد السابع من المجلد الحادی والثلاثین الصادر فی رجب 1379هـ ینایر 1960م ص: 756-759.
13- انظر: مذكرات القرضاوی «ابن القریة و الكتاب» «2/317».

http://al-marefa.com/index.php/post/3