ابتداءا من الصحابی الجلیل جابر بن عبد الله الانصاری الى یومنا هذا، حیث شهد تاریخ العراق على مدى القرون الماضیة الصور الرائعة من العشرات فالمئات فالالاف فالملایین التی تقطع المسافات الطویلة صابرة محتسبة عناءها ومصاعب ظروفها لله تبارك وتعالى، وتحتشد حول ضریح سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه واله، معبرة بذلك عن عظمة الاسلام الحنیف وعزته، فان بطل الاسلام هو الحسین (ع) كما ورد تلقیبه فی الزیارة الشریفة، وهو القائد الذی استطاع ان ینشر رسالته رسالة الاصلاح والغیرة على عزة الدین وكرامة الامة الاسلامیة وصیانتها من الانحراف لدى الاجیال المتعاقبة الى یوم القیامة، فكان یومه مصداقا جلیا للحدیث الشریف (ان لفقد جدی الحسین حرارة فی قلوب المؤمنین لا تبرد ابدا) حتى اصبحت المسیرة الملیونیة الحسینیة فی الاعوام الاخیرة اضخم واعظم مسیرة انسانیة دینیة عرفها التاریخ وطأطأ لها اجلالا واحتراما.
ولا غرابة فی ذلك فان هذه الافواج المتلاطمة والحناجر المدویة والعیون الباكیة امتداد وتجسید حی لتراث اهل بیت العصمة صلوات الله علیهم اجمعین، حیث ورد الحث على هذه العبادة العظیمة فی عشرات الروایات المعتبرة عن الائمة الهداة علیهم السلام منها صحیحة ابن مسكان (عن أبی عبد الله (ع) قال: من زار قبر أبی عبد الله عارفاً بحقه ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). ومنها صحیحة معاویة بن وهب (قال: استأذنت على أبی عبدالله فقیل لی: ادخل ، فدخلت فوجدته فی مصلاه ، فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو یناجی ربه وهو یقول: یا من خصنا بالكرامة ، وخصنا بالوصیة ، ووعدنا الشفاعة ….. الى ان قال: اللهم إن أعدائنا عابوا علیهم خروجهم ، فلم ینههم ذلك عن الشخوص إلینا ، وخلافا منهم على من خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التی قد غیرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التی تقلبت على حفرة أبی عبد الله ، وارحم تلك الاعین التی جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التی جزعت واحترقت لنا ، وارحم الصرخة التی كانت لنا).
ومن هذه الروایات الشریفة ما تضمن الحث على المشی الى قبر الحسین (ع) كموثقة سدیر الصیرفی عن ابی جعفر (ع) فی زیارة الحسین (ع) قال (ما أتاه عبد فخطا خطوة ، إلّا كتب له حسنة وحُطّت عنه سیّئة)، وفی روایة ابی الصامت (قال : سمعت أبا عبد الله (ع) وهو یقول : من أتى قبر الحسین ماشیاً، كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة ، ومحا عنه ألف سیّئة ، ورفع له ألف درجة ، فاذا أتیت الفرات فاغتسل وعلّق نعلیك وامش حافیاً، وامش مشی العبد الذلیل ، فاذا أتیت باب الحایر فكبّر أربعاً ثمّ امش قلیلاً، ثمّ كبّر أربعاً، ثمّ ائت رأسه ، فقف علیه فكبّر أربعاً وصلّ عنده واسئل الله حاجتك).
وبعد استعراض هذه الاحادیث نقول:
ومن جمیل المقال ان نلتفت الى ان ذكرى الاربعین فی هذا العام اقترنت باحداث ومواقف عظیمة تتجلى فیها عزة الاسلام وشموخ مبادئ اهل بیت النبی صلوات الله وسلامه علیهم اجمعین.
الحدث الاول: ان المسیرة الملیونیة نحو كربلاء قد اقترنت بالملاحم البطولیة التی سطرها الجیش الوطنی العراقی والحشد الوطنی الشعبی المستمیت دفاعا عن حقوق المجتمع الانسانی فی الامن والتعلیم والحیاة الكریمة وصیانة، وحفاظا على المجتمع العراقی بسائر قومیاته وادیانه ومذاهبه والوانه المتعددة، واظهارا لعزة الاسلام وسموه امام التیار الداعشی الخطیر على سمعة الاسلام ونقاء صورته، والتفافا حول كلمة المرجعیة الرشیدة التی تمثل الابوة الحانیة العطوف على جمیع ابناء المجتمع العراقی بمختلف اصنافه.
فهؤلاء الابطال العظام الذین نذروا دمائهم وجهودهم واوقاتهم واسرهم للدفاع عن مجتمعنا وحرماتنا ومقدساتنا وسائر مرافق الحیاة الكریمة، هم المصداق الاجلى لقوله عز وجل ((إِنَّ اللَّهَ یُحِبُّ الَّذینَ یُقاتِلونَ فی سَبیلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنیانٌ مَرصوصٌ)) وقوله تعالى ((مِنَ المُؤمِنینَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَیهِ فَمِنهُم مَن قَضى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن یَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبدیلًا)).
الحدث الثانی: اهتمام المؤسسة الدینیة وفی طلیعتها العتبات المقدسة ومكتب المرجعیة العلیا فی النجف الاشرف، بمواكبة الانتصارات المباركة فی میدان الجهاد، وبذل المزید من المساعدات للنازحین والمحرومین ورعایة الارامل والایتام، وارسال المئات من اهل العلم وطلبة الحوزة لمتابعة هذه المسیرة الجهادیة الصامدة ودعمها مادیا ومعنویا فی صورة رائعة حیة تعكس اهتمام المرجعیة بابنائها الغیارى والتفاف المجتمع المخلص لاهدافه ومسیرته حول قیادته الرشیدة، حیث اصبحت هذه المواقف مصداقا لقوله عز وجل ((الَّذینَ استَجابوا لِلَّهِ وَالرَّسولِ مِن بَعدِ ما أَصابَهُمُ القَرحُ لِلَّذینَ أَحسَنوا مِنهُم وَاتَّقَوا أَجرٌ عَظیمٌ، الَّذینَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَد جَمَعوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزادَهُم إیمانًا وَقالوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكیلُ، فَانقَلَبوا بِنِعمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضلٍ لَم یَمسَسهُم سوءٌ وَاتَّبَعوا رِضوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذو فَضلٍ عَظیمٍ))، وقوله تعالى ((وَالعَصرِ، إِنَّ الإِنسانَ لَفی خُسر، إِلَّا الَّذینَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَواصَوا بِالصَّبر)) وقوله تعالى ((مَن یَرتَدَّ مِنكُم عَن دینِهِ فَسَوفَ یَأتِی اللَّهُ بِقَومٍ یُحِبُّهُم وَیُحِبّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرینَ یُجاهِدونَ فی سَبیلِ اللَّهِ وَلا یَخافونَ لَومَةَ لائِمٍ)).
الحدث الثالث: العطاء الفكری، حیث قامت المرجعیات الدینیة فی النجف الاشرف وغیرها بمواكبة المسیرة الملیونیة فی جمیع المناطق منذ عدة اعوام بارسال المئات من العلماء والخطباء للارشاد وبث المعارف الدینیة الاعتقادیة والفقهیة، وغرس القیم الخلقیة فی نفوس وعقول المسلمین الموالین لاهل البیت (ع)، من خلال التواصل معهم فی جمیع مواقع تواجدهم واجتماعهم، ویتمیز هذا العام عن الاعوام السابقة بالمزید من الاعداد لبذل العطاء الفكری والفقهی المتمیز كمّا وكیفا اتباعا لقوله عز وجل ((وَما كانَ المُؤمِنونَ لِیَنفِروا كافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهوا فِی الدّینِ وَلِیُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَیهِم لَعَلَّهُم یَحذَرونَ)).
فالاحرى بالمؤمنین المتفانین فی زیارة سید الشهداء (ع) تجسید قیم كربلاء ومبادئ عاشوراء تجسیدا رائعا من خلال الالتزام باداء الصلاة فی اوقاتها، ومسیرة الاخوات المؤمنات بالحشمة والوقار والاقتداء ببطلة كربلاء العقیلة زینب (ع) فی حجابها الكامل وعفافها وجلالها، وابراز حسن التعامل بالمُثل والقیم الخُلقیة الرائعة، والتعاون مع جمیع الكوادر المسؤولة عن التنظیم وادارة مرافق الطریق، والحفاظ على نعمة الطعام الذی یقوم ببذله اهل الكرم والجود فی سبیل طریق كربلاء من الاخوة العراقیین الموالین، من جهة حفظه وتوزیعه توزیعا متقنا بعیدا عن الاسراف والتبذیر، قال تعالى ((وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوى وَلا تَعاوَنوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوانِ)).
الحدث الرابع: الوصایا الابویة، لقد تصدت المرجعیة العلیا فی النجف الاشرف انطلاقا من المسؤولیة الجسیمة الملقاء على عاتقها، لاصدار بیان التوصیات والتنبیهات المهمة فی العشرة الاولى من شهر محرم الحرام التزاما بتعالیم الشرع الحنیف وحفاظا على سمعة الاسلام، وابرازا للصورة النقیة الناصعة البیضاء لمذهب اهل البیت (ع) ومبادئه الخالدة، حیث اكدت فی بیانها على ضرورة الاقتصار فی احیاء ذكرى عاشوراء وما یتبعها من مناسبات فی شهری محرم وصفر على الشعائر الحسینیة المتعارفة المتوارثة بین ابناء الشیعة الامامیة خلفا عن سلف المباركة بامضاء العلماء الاعلام على مدى التاریخ، ومنع استحداث بعض الممارسات التی لا تنسجم ولا تتناسب مع عظمة هذه الذكرى وسمو اهداف هذه الحركة الحسینیة المباركة، فكانت لتلك الكلمات الابویة الاصداء العظیمة التی نبهت وایقضت جمیع الاجیال الحسینیة الغیورة على ضرورة بقاء الشعائر الحسینیة شامخة نقیة مؤثرة فی النفوس والعقول بشكلها ومضمونها.
الحدث الخامس: وحدة الكلمة، لقد ركز خطباء الجمعة وممثلو المرجعیة العلیا وسائر المراجع الاعلام على ضرورة وحدة الكلمة والتسامی على الخلافات الداخلیة، حیث ان الامة الاسلامیة بصفة عامة وشیعة مذهب اهل البیت (ع) بصفة خاصة تمر بظروف عصیبة خطیرة ومؤامرات مشبوهة تفرض علیها ان تركز على اولویاتها واهدافها العلیا دون الدخول فی اثارة الاختلافات التی لا یخلو منها زمن ولا مجتمع، وخصوصا فی ایام ذكرى عاشوراء العظیمة، فان مسؤولیة جمیع المسلمین عامة واتباع مذهب اهل البیت (ع) بصورة خاصة، التأكید على غرس مبادئ الثورة الحسینیة وترسیخها فی نفوس الاجیال التی من اجلها ضحى وبذل سید الشهداء (ع) ومن معه من الصفوة المنتخبة من الانصار وبنی هاشم، والتی من اجلها بذل ومازال یبذل ابناؤنا واخواننا المجاهدون فی ساحات الشهامة والكرامة انفسهم واموالهم، وامتثالا لقوله تعالى ((واعتصموا بحبل الله جمیعا ولا تفرقوا)) وقوله تعالى ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ریحكم)).
فالحری بجمیع اخوتنا الحسینیین فی هذه الاجواء الولائیة المباركة، وسائر مناسبات اهل البیت اغتنام الفرصة فی ترسیخ المعارف الدینیة الاعتقادیة والفقهیة، وغرس المثل والقیم الخلقیة، وعدم اشغال المجتمع بالاختلاف الجزئی فی بعض الموارد، كما ان الاختلاف فی بعض الانظار الفقهیة والقضایا الفكریة لا یصلح ان یكون مسوغا شرعیا او مبررا للطعن او التعریض او الغمز او اللمز فی ای مؤمن، فضلا عن النیل من مراجع الطائفة واساتذة الحوزات العلمیة واعلام المنبر الحسینی من العلماء والخطباء المعروفین الذین بذلوا اعمارهم واوقاتهم وفكرهم فی سبیل نشر رسالة الامام الحسین (ع).
والسلام على الحسین وعلى علی بن الحسین وعلى اولاد الحسین وعلى اصحاب الحسین ورحمة الله وبركاته.
القسم الاعلامی فی مؤسسة الامام علی (ع) – لندن
شفقنا–
مطالب مشابه