تحدث الأستاذ حسن رحیم بور أزغدی فی إحدى محاضراته عن ملحمة عاشوراء وقراءات المدارس المعاصرة تجاهها، وفیما یلی نقدم لكم نص المحاضرة:
بسم الله الرحمن الرحیم
ملحمة عاشوراء وقراءات المدارس المعاصرة … عرض و نقد
بتعالیم الإمام الحسین ننتصر
یقولُ أنصار مدرسة أهل البیت علیهم السلام: إنهم قد دوَّنوا واقعة الطف منذُ عصر یوم التاسع من مُحرم إلى ظهر عاشوراء وباتوا ینقلونَ ذلكَ ویطرحونهُ فی المجالس كلما سنحت لهم الفرصة. وسَنُعرِّجُ على كربلاء فی كُلِّ مقالةٍ وكتابٍ حتى وإن لم یرتبط بالموضوع ونحاول وصلَ كُلِّ شیءٍ بقضیة كربلاء ولن نَدَعَ هذه الذكرى تَفوتُ علینا أو ننساها، وباتوا یُخاطبونَ أعداء الإمام على مر التاریخ بالقول: إنكم تُحاولونَ محوَ ذكرى الحسین وثورته لكننا نفعل العكسَ ونُكرسُ ذلكَ فی حیاة أتباع مدرسة أهل البیت حتى لو اقتضى الأمرُ أن نتظاهر بالبكاء والتألُّم حیثُ تدعو الروایات إلى التباكی حتى ولو لم یكن الإنسانُ مُتأثراً بعد وعلیه أن یُطأطأ الرأسَ وأن یضعَ یدیه على وجهه وعینیه.
هذه رسالةٌ واضحةٌ وجمیلةٌ، وبهذه الصورة حُفِظَت مراسمُ عاشوراءَ والإمام الحسین علیه السلام، لأنَّ الحُكامَ استفادوا من سیاسة الترغیب والترهیب لمحو ذكرى الحسین علیه السلام. لأنَّ ذكرى الحسین یعنی الثورة على الظلم والحكومة الجائرة، ویعنی الثورة ضدَّ الربا والفقر، ویعنی محاربة الاستبداد، ویعنی محاربة الظالمین والمتكبرین لأنَّ النفاق سیزول ولأن الإمام الحسین علیه السلام ثارَ ضدَّ هذه الأمور. إنَّ لحزب الله فی لبنان قناةً فضائیةً تحمل اسمَ (قناة المنار) ویُلتَقَطُ بَثُّها فی عموم المنطقة، كان قد وجَّهَ أحدُ المُشاهدینَ الفلسطینیینَ سؤالاً وهم فی الغالب من الأخوة أهل السُّنَّة، قد شاهدَ أفلاماً وصوراً عن العملیات الاستشهادیة التی نفَّذها مُقاتلو المقاومة الإسلامیة، حیثُ یودِّعُ الابنُ أمهُ وتقول هذه الأم لولدها اذهب، وتقول للثانی اذهب. وهذا المشاهد قد شاهدَ العِصابةَ على جبین المقاتل وقد كُتبَ علیها یا حُسین وأمثالُ هذه الكلمات. والفلسطینیونَ كانوا قد استلهموا فی انتفاضتهم وعملیاتهم الاستشهادیة من عملیات المقاومة الإسلامیة فی لبنان، حیثُ لم یكن معروفاً تنفیذُ مثل هذه العملیات من قبل، فقد بدأها أبناءُ جنوب لبنان ضدَّ القوات الصهیونیة، ولذلك استطاعت المقاومة الإسلامیة أن تهزم إسرائیلَ لأولِ مرةٍ فی تاریخ هذا الكیان، حیثُ لم تتراجع إسرائیل عن أیةِ بُقعةٍ أخرى كانت احتلتها. وهناك الكثیر من المناطق التی ما تزال مُحتلة فی الضفة الغربیة ومصر والجولان السوری، وما اقتطعته إسرائیل من البلدان العربیة ما تزال تحتله، وإذا بأحد الفلسطینیین یكتب رسالةً إلى قناة المنار ویقول: هل یمكن للحسین أن یَقْدِمَ إلى فلسطین؟ الحسین الذی حَررَ لبنان. لم یكونوا على إطلاعٍ كاملٍ بقضیة الإمام الحسین علیه السلام، نقول لهؤلاء: نعم إنَّ بإمكان فكر الإمام الحسین أن یُحرِّرَ فلسطین شریطةَ أن یتبعوا تعلیماته التی ثارَ من أجلها. وهكذا فإنَّ الإمام الحسین خطَرٌ یتهدَّدُ كیانهم لأنَّ ذكرى ثورته تؤرِّقُ الكثیرین، لأنَّ عاشوراء تعنی الثورة على الطغیان وضماناً للعدل والإنسانیة والكرامة، وعندما یكون الحدیث عن الصلابة والصمود فهذا یعنی أنَّ الوقوفَ بوجه العدل والكرامة من قبل الأعداء یعنی الوقوفَ حتى آخر قطرةٍ من دمائنا، ولذلكَ حاولَ الحكام الجائرون تضییع قبر الإمام الحسین، وفَتَحوا المیاهَ على قبره الشریف وحَرَثوا الأرضَ التی تحوی قبرهُ الشریف عِدَّةَ مراتٍ على مر التاریخ لتضییع علائم القبر وحتى یتمَّ نسیان الإمام الحسین لكنَّ الأمر لم یُفلح.
بعدها حاولوا طمسَ حقیقة ما جرى فی كربلاء ثقافیاً، حیثُ قالوا إنَّ عاشوراء تعنی العنف تعنی الجهاد تعنی استخدام السلاح تعنی الحماقة وظلُّوا یُكرِّرونَ هذه المفاهیم المغلوطة إضافةً إلى استخدام وسائل أخرى منها حرق المكان. لقد فشلوا فی كُلِّ ما یفعلونه وقالَ أتباعُ مدرسة أهل البیت إنَّ ما حصلَ عبارة عن عارٍ ثَبُتَ فی التاریخ ولن یُمحى من صفحة التاریخ ولا یمكنهم غَسلُ هذا العار ولن نسمح لهم بذلك فلا یمكنهم قتل الحسین ومن ثَمَّ تضیعُ الموضوع وكأنَّ شیئاً لم یحصل. إنَّ هناكَ سوءَ فهمٍ وانتهى لن نسمحَ بِتمیّعِ الجریمة مهما حصل، وأن تدخلَ هذه الجریمة فی سجل التأریخ وكفى، هكذا یقولون، ینبغی رفعُ لواء الجهاد والشهادة والعزَّة والكرامة الإنسانیة من خلال قضیة الحسین على الدوام ولن نسمح بمحاربة ثورة الحسین ثقافیاً أو بغیرها من الطرق.
وفی الجهة المقابلة نرى أنَّ هناكَ تیاراً اتَّجَهَ نحو الانحرافِ والتضخیم فی واقعة الطف ولو رجعنا إلى التاریخ لرأینا أنَّ الحُكامَ المستبدین على مر التاریخ منعوا زیارة الحسین تارةً، لكنَّ أتباعَ أهل البیت تمسَّكوا بالموضوع رُغمَ معارضة الحكام ورغمَ تعرضهم للأذى والضرب والقتل أحیاناً. وعندما شاهدَ حكام الجَوْرِ أنَّ أتباع أهل البیت لن یتركوا شعائر الحسین وزیارته قالوا إذاً نضعُ شرطاً لمن یُریدُ زیارة الحسین یقضی بقطع أطرافه فلم یتراجع الموالونَ لأهل البیت بل شكَّلوا صفوفاً طویلة للزیارة وطالبوا جلادیهم بفعل ذلك لأنهم مُشتاقونَ لزیارة الحسین علیه السلام. هكذا ظلت قضیة الحسین حیَّةً فی ضمائر الشیعة ولو تلاحظون فی إیران إبانَ الحرب المفروضة لم تكن عملیةٌ واحدةٌ من العملیات تُنفَّذُ دونَ ذكر الإمام الحسین أو التوسل به ولن تجدوا وصیةً من وصایا الشهداء لیسَ فیها ذكرٌ للإمام الحسین علیه السلام.
كانَ الأعداء یخافونَ من اسم الإمام الحسین وثورته ومن هذه التطبیقات العملیَّة على الأرض فی یومنا هذا وهكذا تبدو ثورة الحسین تُخیف الأعداء، لأنَّ ثورة الحسین علَّمت أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام أن یقف الثائر بوجه الظلم ولو كلَّفهُ ذلكَ مقتلَ ابنه الرضیع فهو سیأخذُ بدمه ویُلقیه إلى السماء ویقول كما قال الإمام الحسین: (إلهی رضاً برضاك). فقد فعلَ ذلكَ الإمام الحسین یومَ العاشر من مُحرَّم وقال بعدما ذبحوا ابنهُ الرَّضیع عبد الله وألقى بدمه إلى السماء وقالَ: إلهی إنَّ الأمرَ سَیَهُونُ علیَّ لأنهُ فی سبیلك.
وتُعلمنا ثورة الحسین أنَّ شیوخاً طاعنینَ فی السن مثلَ حبیب بن مظاهر التسعینی حیثُ كانَ شدَّ حاجبیه بعصابةٍ شدَّت رأسهُ لأنَّ الحاجبین كانا یسقطان على العین فیمنعانهِ من رؤیة حملَ السلاحَ دفاعاً عن الإمام واسُتشهدَ بینَ یدی الإمام الحسین، لأنَّ الأعداءَ لا یستطیعون الوقوفَ بوجه هذه الثقافة. الثقافة التی تُقدمُ قرابیناً فی سبیل العقیدة من الطفل الرضیع إلى الشیخ التسعینی وتعتبر هذا من أصول المقاومة. حتى لم یمنع الإمام سَبیُ أهل بیته ولم یردعهُ قَولِ الحق والثورة على الطغیان من أسر حرائره وبناته وزوجته حتى قیلَ له: سیدی! إنَّ نسائكَ ستُسبى وربما كشفوا عَنْهُنَّ الحجاب ربما تعاملوا مَعَهُنَّ كالجواری. فیقول: لا، لا یمنعُ ذلك، ولا عیبَ فی الأمر لأنهُ فی ذات الله. تُرى هل یستطیع أحدٌ مُجاراة هذه الثقافة؟
ولذلك ینبغی للطغاة وحُكام الترهیب والترغیب للظلمة والمستكبرین الخوف والهلع من هذه الثقافة، وینبغی لهم أن یفتحوا المیاه على قبر صاحب هذه المدرسة الثوریة ثمَ یأتونَ لمواجهة ثقافة الجهاد والشهادة وعاشوراء ولن یبقى لهم طریقٌ آخر، لأنَّ هذه الثقافة ستقضی على الظلم والظالمین ولن یستطیعَ أحدٌ الوقوفَ بوجه ثقافة عاشوراء.
ظاهرة التطبیر
إنَّ مجرد إحیاء ذكرى عاشوراء من كُلِّ عام حیثُ تُعبِّرُ جماهیر الأمة عن حزنها فهذا یعنی الخزیَ والعارَ للظَلَمَة، وأنَّ البكاءَ فی ذكرى الإمام یَضعُ مشروعیة الحكام أمامَ التساؤل. وعلى مَرّ التاریخ قامَ البعضُ ومن أجل إظهار المقاومة أمامَ الطغاة مُقابل التهدید بقطع الأطراف فی حال التوجّه إلى زیارة الحسین، وقاموا بضرب رؤوسهم بالسیف والقول للطغاة بماذا تُخیفوننا؟ من الدماء؟ فنحنُ مستعدونَ لفعل ذلك بأیدینا ماذا تُریدونَ بعدَ ذلك؟
بالطبع ذكرتُ ذلك فی سیاق الرد التاریخی ولم أتحدث عن الموضوع فی سیاق التأیید لهذه الظاهرة، بل أردتُ الإشارة إلى ردود الأفعال التی برزت من قبل الشیعة مقابل ظلم حُكام الجور، وللأسف تمَّ تحریف هذه المسألة بمرور الأزمنة وأصبحت قضیةٌ مُفرطةٌ وخُرافیة وقد استَغلَّ الأعداء هذه الظاهرة رویداً رویداً و فقدت ظاهرة التطبیر فلسفتها الوجودیة. ولیسَت هناكَ أیةُ روایةٍ تدعوا لضرب الصدور أو الرؤوس، وكلُّ ذلك عملٌ أوجدهُ الشیعة بمرور الزمن، لأنَّ هذا الموضوع یُمارسُ من أجل الذكرى وضرب النفس سواءً بواسطة الید أو سلاسل الحدید، وكلُّ ذلك یعود إلى الأزمنة التی كان حكام الجور یُهددونَ الشیعة فی مسألة زیارة الحسین واستذكار واقعة الطف، فكانَ ضربُ السلاسل على سبیل المثال لمواجهة التهدید بالجَلْدِ من قبل الحكام لكل من یرید زیارة قبر الحسین علیه السلام.
ورویداً رویداً تحولت هذه المظاهر إلى آدابٍ وتقالید. لا أرید هنا القول إنَّ الكثیر من هذه العادات كانت ثوریة وكانت فی الحقیقة نوعاً من اتخاذ الموقف ضدَّ الظلم والجور، وبعدها تحولت إلى عادات ٍوآدابٍ اجتماعیة ٍ وثقافیةٍ وتمَّ تناسی فلسفتها وتحولت شیئاً فشیئاً إلى موضوعٍ خُرافیٍّ وأمرٍ غیرِ هادف، وتُصبحُ هیَّ فی حدِّ ذاتها مانعاً مثلَ ربطِ الكلالیبِ والأقفال وتعلیقها فی منطقة الصدر وضرب الرؤوس بالسیوف والتی یتمُّ القیام بها فی بعض الأماكن.
لقد فقدت أسبابها ومصداقیتها لكن البكاء وإقامة مجالس العزاء ولطم الصدور وإظهار حالة الحزن، وإظهار الفاجعة التاریخیة من قبل أتباع مذهب أهل البیت كلُّ هذه تُریدُ إیصالَ رسالةٍ مُفادُها: أننا ورغمَ مرورِ نحوِ 1400 عامٍ من هذه الحادثة الألیمة ما نزالُ نشعرُ بالعزاء، وأنَّ الدماء التی أُریقَتْ فی تلكَ الفترة من التاریخ ما زالت ماثلةً فی أذهانِنا.
كلُّ یومٍ عاشوراء
فی أحد الاجتماعات كانَ أحدُ الأساتذة الأوروبیین ولم یكن مُلمَّاً ببعض الأمور المذهبیة، كان قد شاهدَ عبرَ التلفاز الإیرانی مراسم عاشوراء على مدى یومین بعدها قالَ: ترى ما الذی حصل؟ فقیل له: إنها مراسمُ عزاءٍ لأحدِ قادة الشیعة قتلوهُ وأسروا أهلَ بیتهِ وعیاله فقالَ: متى وقعت هذه الحادثة؟ لم نسمع فیها بالأخبار؟ فقالوا له إنها وقعت قبلَ 1400 عامٍ خَلَت، فتساءلَ: ولمَ البكاء علیه بهذه الحرارة؟ وأنتم تقولونَ إنَّ الحادثة قد وقعت قبل أكثرَ من ألف عام؟
بعدها أضافَ أنَّ طریقةَ بُكائكم هذه تُشیرُ إلى أنَّ الرجلَ قُتِلَ للتو! فردُّوا علیه بالقول: نعم. لقد أریقَ دمُ الحسین علیه السلام بالنسبة لنا كیوم أمس ولن یلعبَ عنصر الزمان والمكان دوراً مهماً فی هذه القضیة لأنَّ مُناشدةَ العدل والحقیقة لا تعرف الزمان والمكان ولیسَ مهماً متى أُریقَ هذا الدم. المهم أنَّ هذا الدم الطاهر أُریقَ وهذا هو المهم بالنسبة لنا. فتعجبَ كثیراً لكلِ ما یرى من اهتمامٍ بذكرى شهادة الإمام، وكیفَ یبكی الإنسانُ مأساة الحسین علیه السلام بعدَ كُلِّ هذه الفترة الزمنیة الطویلة وكأنَّ الإمامَ قُتِلَ بالأمس.
معنى السجود على تربة الإمام الحسین علیه السلام
إنَّ تُربةُ الحسین بالنسبة لنا عزیزةٌ للغایة وهیَ من حیثُ كونها تربةً لا تفرق عن سائر أنواع التربة ولا فرقَ بینها وباقی تُربة العراق، لكن یُقالُ إنَّ السجودَ على تربة الحسین أكثرُ ثواباً. تُرى لماذا؟ وما هو الفرق بین تربة الحسین وتربة الكوفة أو البصرة أو تربة الحجاز أو همدان أو أیَّةِ ذرةِ ترابٍ فی الرَّی أو أی مكانٍ آخر؟
یأتیكَ الجواب: إنَّ الفرقَ یكمن فی أنَّ هذه الأرضَ والإنسان والتاریخَ شَهِدَ ملحمةً لم تُسجل فی كل التاریخ ملحمةٌ مثلها. ربما كانت الأحداث التاریخیة مهمة، لكن أی منها لا یرقى إلى حادثة الطف وأهمیتها وعلیه فإنَّ السجودَ على تربة الحسین فی الصلاة تفرق عن السجود بغیرها، لأنَّ الإنسانَ فی تلكَ السجدة علیه أن یلتزمَ عملیاً بأسباب ذلك، وأحدُ هذه اللوازم العملیة السجود لله سبحانه ومن ثُمَّ التوحید، وهناك عملیة أخرى یتمُّ تناسیها فی المجتمع الإسلامی، ألا وهیَ الاستعداد للتضحیة فی سبیل هذه الأصول.
إنَّ السجدة على تربة الحسین تُذكرنا دوماً أنَّ هذه السجدة هی حركة توحیدیة، وهیَ بغض النظر عن الفداء و الإیثار والاستعداد للتضحیة بالغالی والنفیس والاستعداد للموت، وألا یوجد شیء مُهماً بالنسبة (للإنسان)، أی ألَّا یكونَ أی شیءٍ عائقاً أمامَ التضحیة بالروح والمال والعیال والحیاة والجار والشخصیة والاعتبار، وأن یكون على استعدادٍ لفقد أی شیءٍ من الوثائق والعمل، وأن یكونَ مُسلِّماً بكل شیء. هذا هوَ معنى السجدة على تربة الحسین. أی أنَّ التوحیدَ یرتبطُ بالولایة والعدالة لأنَّ السجود على تربة الحسین تختلف مع السجود على باقی التراب، لأنها توصل التوحید بالولایة والعدل وتوصل بینَ الإنسان والجهاد والشهادة، وهذا ما یتم ُّمواجهته ومحاولة منعه.
الحذر من الغلاة والمغالین
ومن جهةٍ أخرى ینبغی أن نقفَ أمامَ الثقافة الخرافیة التی یتمُّ طرحها فی المجالس الحسینیة، والمدائح والإسراف فی ذكر الدم وضرب رؤوس الأطفال الرُّضَّع بالسیوف على رؤوسهم باسم عبدالله الرضیع، وضرب السیوف من قبل الكبار لِأنفسهم. إنها أمورٌ غیرُ واردة. حتى مسألةُ ضرب الظهر بالسلاسل ولطم الصدور، لن تَجدَ ذِكراً لها فی الروایات.
الروایات تُشیرُ إلى إحیاء ذكرى الحسین والبكاء فی ذكرى استشهاده، وما عدَا ذلكَ فهیَ حركاتٌ رمزیة أوجدها الشیعة أو الإیرانیونَ على وجه الخصوص وهی جمیلة للغایة، حیثُ ترى الملایین ینزِلونَ إلى الشوارع ویذرفونَ الدموع ویلطمونَ الصدور فی مراسم خاصة كأنَّ ظهر الیوم العاشر من مُحرَّم هوَ ذاكَ یومُ الواقعةِ فی كربلاء. ورغم ذلك علینا أن نكونَ حذِرینَ ویقِظین ألا تخرج هذه المراسم عن المفاهیم الإسلامیة والقیَّمة والأحكام الإسلامیة، وتتبدل إلى قضایا حمقاء خُرافیة وكاذبة أحیاناً، فیها المُبالغة والغلو، لأنَّ الإمام الحسین علیه السلام وسائر الأئمة نُقِلَ عنهم القول إنَّ المغالین غیرُ مؤمنین، أی من یقولُ إنَّ الأئمةَ هم أعلى مرتبة ودرجة من الأنبیاء، وفی بعض الأحیان یوصلونَ مرتبتهم إلى مرتبة الله سبحانه، فهؤلاء لیسوا بمسلمین، والأئمة منهم بُراء، حتى إنَّ حُكمَ الاعدام نُفِّذَ ضدَّ مجموعة من المغالین كانوا فی زمن خلافة الإمام علیٍّ علیه السلام، وكانَ هؤلاء یؤلِّهونَ الإمام علیّ علیه السلام، وكانَ الإمام یُعانی من أعدائه ومن هؤلاء أیضاً.
فی غزوة الخندق على ما أتصور، ذَكَرَ الرسول صلى الله علیه وآله إننی أعلمُ أشیاءَ من علیّ لو بُحتُ بها لقیلَ فی حقهِ ما قیلَ فی عیسى بن مریم ولكانَ نُعِتَ بالألوهیة، ولكانَ الناسُ جمعوا التُراب الذی تحت قدمیه تبرُّكاً، لأنَّ النبی كانَ یخشى أن یتمَّ التعامل مع الإمام بعدَ وفاته بهذه الطریقة. ولكن شاهدنا فی التاریخ كیفَ تمَّ التعامل معه.
وهناكَ روایةٌ عجیبة، حیثُ یُروى أنَّ الإمامَ كانَ مع جماعةٍ من أصحابه یمرونَ أمام موضعٍ ما، فلاحظَ أنَّ جمعاً تسمَّروا فی الطریق، وظلَّوا یُعاینونَ الإمامَ بطریقة العاشق الولهان وكالعبد الذی یرى مولاه، فرجعَ الإمام ونَظَرَ فإذا هم یهمسونَ بكلامٍ بشفاههم ویقولون: أنت، أنت، أنت. ففهمَ الإمامُ ما یقولون لأنَّهُ كانَ قد أخبر بوجود مثل هؤلاء وكانوا من الغلاة. وقال َ لهم: ما بكم لعنكم الله، فقالوا له أنت الرَّب، أنتَ الإله، قالوا: أنتَ أعلى مرتبةً من المسیح ابن الله، وهناك تقول الروایة إنَّ الإمام نَزَلَ من الفرس وسَجَدَ لله و ذرَفَ الدموع واستغفرَ لهؤلاء وقالَ: إلهی أنتَ تعلمُ تنفُّری مما یقولون، إننی عبدُك ولا أرضى بما یصفونی، وأنتَ جلَّت قدرتك تعلمُ صدقی، فنهضَ وكفكفَ دموعهُ وقال: أظنُّ أنكم لا تقصدونَ ما تقولون. فَردُّوا: لا بل نقصد فأنتَ الرب. فقال: استغفروا وارجعوا إلى رشدكم، وبخلافه سآمرُ بقتلكم. فقالوا: اقتلنا. لا نعودُ عن كلامنا.
فأمرَ الإمام بحفر خندقٍ وإلقاء الحطب فیه، وحفروا حفرةً إلى جواره وفتحوا قناةً فیما بینهما، وأشعلوا النارَ فی الحفرة، وأغلقوا الفوهة وألقوا المغالین فی الخندق، واختنقوا وماتوا جمیعاً. ثمَّ جاء البعض وقال للإمام: لم فعلت ذلك یا سیدی؟ كانوا من المُریدینَ لكم! لقد كانوا یعشقونك! فَردَّ الإمام: لقد انحرفوا عن التوحید باسم علی، ولا یهم إن فعلوا ذلك باسم علیٍّ أو ضدهُ، فهم خانوا، وعلیه ینبغی معاقبة الخائنین، ولو لم یفعل الإمام ذلك لكان خرج البعضُ بعد حیاة الإمام لیقولَ: لقد ألَّهوا الإمام وتغاضى هو عن ذلك، وقالَ: حسناً لست إلهاً ولكن سأصفحُ عنكم. ولو لم یفعل الإمام هذا بالمغالین، لم یكن لیبقى من الإسلام فی یومنا هذا شیءٌ ألبته. لقد رأى الإمام أنَّ الإسلامَ كُلَّهُ والبشریة والتاریخَ تقف فی كفَّة، وهؤلاء المغالونَ العشرة أو العشرون فی كفَّةٍ أخرى، وأنَّ ما یقولونهُ ارتدادٌ عن الدین لذلكَ عالَجَهُمْ بما ینبغی.
لقد كانَ هدفُ الإمام القضاء على الإلحاد والانحراف والمؤامرة، سألَ البعضُ لماذا یُحكم المُرتَدُّ بالإعدام؟ بالطبع لا نعنی بالمرتد من یسأل أو یستفسر أو یشك أو یجهل، فلا یصدق على هذا إطلاقاً اسم المرتد مثلما یتصور البعضُ خطأً، فهؤلاء مُستضعفونَ فی أفكارهم. المُرتد هو من یفهم ماذا یقول وماذا یفعل، فهوَ مُتأمرٌ على الإسلام وعلیه إنَّ من یفعل شیئاً خارجَ إطار الجهلِ فإنهُ مُرتدٌ وینبغی إصدار العقوبة ضده.
وینظر الإسلام إلى الارتداد على أنه الوقوفُ العلنی والصریح وعن سبق إصرار وتصمیم ضدَّ الدین ومفهوم التوحید وهو بمثابة القتل المعنوی، أی ارتكاب المجزرة المعنویة العامة وغَلق الطریق أمامَ كُل عطشى المعرفة والروحانیات، أی خداع المؤمنین.
المرتد یقول فی حقیقة الأمر إنَّ الأنبیاء جمیعاً كذَّابون، وإنَّ كُلَّ الأنبیاء من أوَّلِهم إلى آخرِهِم مُبتَدِعُون، وأنَّ البشریة خُدِعت بوجود هؤلاء وتضحیاتهم وجهادهم وتحمُّلهِم الصِّعابَ والسجنَ والنفی والجوع والتعذیب والقتل. وإنَّ كُلَّ هؤلاء كانوا من الحمقى، وعلیه یتقاطع الارتداد والمغالاة فی بعض المواطن.
بعض النظریات التی طرحت حول واقعة الطف
هنا أودُّ الإشارة إلى بعض النظریات المطروحة حولَ عاشوراء، بعضها طُرحَ قبلَ الثورة، وبعضها الآخر بعدَ الثورة، أی خلال النّصف القرن المنصرم فی محافل ما یُصطَلَحُ علیهم بالمتنورین فی داخل إیران، ربما كانَ البعضُ من طلبة جامعة شریف الصناعیة التكنولوجیة قبلَ الثورة یتذكرونَ ما كانَ یُطرحُ فی الجامعات ولا أریدُ تحدیداً ذِكرَ أینَ طُرحت هذه المقولات، حیثُ كانت هنالك عدَّةُ رؤىً فی طرح قضیة عاشوراء.
كانَ البعضُ ینظر إلى واقعة الطف ومسألة عاشوراء على أنها أسطورةٌ تاریخیة دینیة عرفیة، وكانوا لا یتطرقونَ إلى تفاصیل واقعة الطف وأسبابها وهذا یُعدُّ فی حقیقة الأمر تحریفاً وانحرافاً فی تفسیر قضیة عاشوراء وقالوا: إنهُ لیسَ هنالكَ حكمةٌ فی قضیة عاشوراء لا من الناحیة العقلانیة ولا من الناحیة الاجتماعیة أو السیاسیة ولا تتضمنُ المطالبة بالعدل والقضیة تتجلى فی الفدیَة، وهی الموضوع الذی طَرَحهُ المسیحیونَ بخصوص المسیح عیسى بن مریم، من أنَّه ابن الله نَزَلَ إلى الأرض على هیئة إنسانٍ كی یُفدى به لمسح الذنب الأول للبشر. الذنب الذی قامَ به أبونا آدم علیه السلام، لأنَّ الكنیسة تقول: إنَّ جمیعَ البشر یولدونَ كافرینَ ونَجِسِینَ وخُبثاء، وعلیه ینبغی غَسلُهُم غُسلَ التعمید. وهكذا جاءَ عیسى المسیح ابنُ الله إلى الأرض كی یتمَّ الفداء به ویُصلبَ لتكونَ روحهُ فداءً للبشریة جمعاء، لمحو ذنب آدمَ من على عاتق البشریة.
وهناكَ تغیراتٌ وقراءاتٌ مختلفة فی المذهب المسیحی، منها قضیة الفِداء وقضیة العشاء الربانی وقضیة الماء والشراب والخبز الذی نأكلهُ وهو لحم ودم عیسى. والقضایا التی تطرحها المذاهب المسیحیة حولَ هذه القضیة، وهیَ تتعارض مع بعضها، وهكذا یقولون إنَّ الحسین كانَ یعلم بالأمر، وإنَّ قضیةَ الإمام لیست أمراً بالمعروف ونهیاً عن المُنكر والعدالة والحكومة وكلاماً من هذا القبیل، إنها قضیة الفدیة، أی أنَّ الحسین هوَ تكرارٌ لقضیة المسیح، وقد طُرِحَ هذا الرأیُ مؤخَّراً فی إحدى الجامعات الأمریكیة من قبل أحد الأساتذة الغربیین. حیثُ یتخصصُ هذا الأستاذ بتدریس الكلام المسیحی.
وقد التقیتُ بهذا الأستاذ فی إحدى الندوات وعَرَفَ أننی قادم من إیران وأننی من المذهب الشیعی، فقال لی هناكَ اشتراكٌ بیننا ونقطة تفاهمٍ یمكن أن نؤسِّسَ من خلالها الحوار بینَ الطرفین، وهی قضیة الحسین وعاشوراء، فقلتُ وكیفَ ذلك؟ فقال: إنكم تقولونَ فی الحسین ما نقوله فی المسیح، فأنتم تقولونَ إنَّ الحسین ضحَّى بنفسه وباتَ فدیةً، ونحنُ نقولُ ذات الشیء بالنسبة إلى المسیح.
فقلتُ هذا لیسَ صحیحاً، نحنُ لا نقولَ هذا فی الحسین. فقالَ: ألا تؤمنونَ بأنَّ الحسین كانَ مُرسلاً من قبل الله لیُضحّی بنفسه فی عاشوراء كی یتمَّ غسل ذنوب البشریة؟ قلتُ: لا، لا نقولُ بهذا. فقلتُ له هناكَ نقطةٌ جیدة لبدء الحوار معكم، ولكن لیسَ هناكَ مجالٌ للتفاهم مع بعضنا، وبتصوّری أنَّ الموضوعَ یختلف، ولكن لا بأس كی نبدأَ بالتحاور.
إنَّ ثقافةَ هذا المسیحی هیَ ذاتها ثقافة القرون الوسطى لم تتغیر، وكذلكَ الحالُ بالنسبة إلى ثقافات وحتى المدارس المسیحیة الجدیدة فی الكلام المسیحی، والیهودیة وأدعیاء التنویر الدینی من النوع المسیحی تراهم جمیعاً یُكررونَ الیومَ هذه المقولة، على سبیل المثال ماذا یقول الوجودیون؟
الوجودیونَ المسیحیونَ أمثالُ: كیركیجارد، والآخرون یقولون إنَّ الإیمان حالةٌ من القفز فی الظلام، هذا هوَ قیمةُ الإیمان فی نفوسهم، أی أنَّ الإیمان فی اعتقادهم نفیٌ للعقل. وللأسف فإنَّ بعضهم یقولونَ بهذا المبدأ فی أوساط المسلمینَ أیضاً. حتى أننی رأیتُ أنَّ بعضَ خطباء المنبر الحسینی یقولون ما یذهب إلیه الغربیون.
أقولُ إنَّ الأمر لیسَ كذلك، إنَّ الاعتقاد السائد لدى الشیعة أنَّ عاشوراء تجسیمٌ للعشق الإلهی بقدر ما هیَ تجسیمٌ للعقل، وأنَّ طریقَ كربلاء ذو مبنىً عُقلائیّ وأنَّ العشقَ هو استمرارٌ وتكمیلٌ للعقل، لا نفی َ للعقل. نعم ربما كانَ فی ثقافة الإسلام والشیعة ذِكرٌ للموضوع من الناحیة المجازیة والشاعریة حیثُ ترى بعضَ الوعَّاظ یقولونَ إننا مجانین فی حُبَّ الحسین، أو أنَّ حُبَّ الحسین أجننی، وأن لا عقلَ لنا نحنُ عُشاق الحسین، فإن كانَ هذا الكلام حسِّیاً فلا بأسَ فی ذلك. وتارةً لو أردتم بحثَ الموضوع من الناحیة العقلیة والمحاسبات المادیة والتجاریة، فإنَّ واقعة الطف وعاشوراء لم تكن بالحساب المادی رابحة، ولم تكن عقلانیة لأنَّ الإمام لم یكن یقصد النَّفعَ الشخصی فیها، فهیَ لیست من أجل النفس والنفسانیة والانا.
إنَّ العقلیة الدارجة فی الثقافة اللیبرالیة الغربیة الیوم عقلیة رأسمالیة، وهیَ لیست عقلانیة بالمعنى الحرفی للكلمة، إنها نفسانیة والأنا والسلطة والاستكبار أی أنَّ كُلَّ العالم هو فداءٌ لی، وأنَّ كُلَّ شیءٍ هو لی، إننی مركز هذا العالم، وأنَّ حقوقی فوقَ حقوق الآخرین، وكذا مصالحی تفوقُ مصالح الآخرین، وأنَّ القیم والأخلاق والدین والوحیَ أمُورٌ نسبیة. وأننی أنا المُطلق والآخرونَ نسبیّون، والكلُّ مشكوكٌ بهم، وأنا القطعیُّ فی كُلِّ هؤلاء، وأنَّ اللّذة والربحیة والتجربة عندی واقعیَّة، وأننی أقف فی مركز الحیاة والفلسفة والباقی عبارةٌ عن زَبَدْ، ویمكن قرآءةُ ألفِ موضوعٍ من الموضوع الواحد. ولكن هناكَ قرآءةٌ واحدة للمصالح التی أتحدث عنها وهیَ التی أنطقُ بها لا غیری، هذا باختصار الثقافة الأمریكیة الصهیونیة، هذا ما یُرددهُ الإنجلیز والأمِریكیانَ والصهاینة فی عالمنا الیوم. وعندما یكون الكلام عن الإسلام وعن القیم الإسلامیة فإنَّ كُلُ شیءٍ یكون نسبیاً ومشكوكاً به، وتكون القراءاتُ مختلفة، وعندما یكون الحدیث عن المصالح التی یتحدثونَ عنها تكونُ هناكَ قراءةٌ واحدةٌ وفهمٌ واحد، ولا حدیثَ عن شكوكٍ أو نسبیة، وأنَّ كُلَّ شیءٍ مُطلقٌ وواضح كما نقول نحن، وینبغی أن یكونَ فِكرُنا عالمیاً، ألیسَ هذا المنطقُ جمیلاً؟
إذن فالعقلانیة الحقیقیة موجودة فی عاشوراء، وهناكَ عقلٌ بمقدار العشق، ولو كانَ المرادُ من العقل حساب النفعیة الفردیة فلیسَ هناكَ عقلانیة فی الموضوع، أی أن یقومَ رجلٌ یصطحبُ معه سبعینَ رجلاً وامرأة وطفلاً ویقف فی مواجهة أشخاصٍ یعرفُ حقَّ المعرفة أنَّهم سیقتُلُونَهْ فهذا جنونٌ ما بعدهُ جنون، ولا عقلانیة فی هذا الموضوع أبداً. وإذا كانَ المُرادُ من العقلانیة أن أعیشَ بأیّ قیمة لِأكُلَ وأشرب فإن كان معنى الحیاة من أجل العنایة بالأجساد والأكل والنوم فهذا خلافٌ لهذا النوع من العقل.
أما العقل بمعناه الحقیقی فهوَ أن یقومَ الإنسانُ بعملٍ تكونُ فیه المنفعة أكثر من الضرر، لتصوّرنا أنهُ تمت مُراعاةُ العقلانیة فی عاشوراء، بمعنى أنَّ الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه انتفعوا أكثرَ مما تضرَّروا، ولِذا فإنَّ عملهم كانَ عقلانیاً، لأنهم تحمَّلوا یوماً أو نصفَ یومٍ من الاشتباك واشتروا لأنفسهم الخُلد. ولِذا فإنَّ شُهدائنا هم الذینَ ذهبوا مشیاً على حقول الألغام، وهم الذینَ اشتبكوا مع العدو، وهم الذینَ تحمَّلوا التعذیبَ فی سجون الطواغیت، لم یكن هؤلاء مجانین بل ینبغی القول إنَّ هؤلاء حَسَبوا حِسابهم بصورةٍ جیدة، وكانَ حِسابهم كِحساب السوق، فإنهم قالوا مع أنفسهم لنتحمَّل التعذیب أو نُصابَ بالشظایا نُصبحُ بعدها مُعاقین نتحمَّلُ الأذى لِثلاثینَ أو أربعینَ عاماً بعدَها نُخلَّد ونَحصُلَ على الجنَّة التی وعدنا بها الرَّب، فهل خَسِرَ هؤلاء أم ربحوا؟
إنَّ من یقول إنَّ هؤلاء تَضرَّروا فإنه یُنكِرُ العلاقة مع ما وراء الطبیعة، فهوَ یتصوَّر أنَّ الأمرَ یتجلَّى فی عالَم الیوم وحسب، وعلى هذا فإنَّ من ینظر إلى هذا الموضوع من هذه الطریقة تكون الدنیا له كالإصطبل، فمن أكَلَ أكثر انتفع، ومن ضَرَبَ الآخرینَ ومنعهم من الأكل وأكلَ حصتهم فهوَ الرابح الأكبر.
ثمَّ إنَّ هذا التفسیر یقودُنا إلى القول إنَّ كُلَّ شُهداء التاریخ هم مجانین وكلُّ مُجاهدی التاریخ بلهاء، لكن الحقیقة لیست كذلك، لأنَّ الإسلام یقول إنَّ الحیاة عبارةٌ عن ممرٍّ إلى الآخرة وإلى الحالة الأبدیَّة، أمَّا نحنُ فقد قضینا الشطر الأوفرَ من العُمر، الشطرَ الأحلى، وما سیأتی هوَ عبارةٌ عن النصف الثانی من العمر الذی لن یكونَ فی حلاوة النصف الأول، فهل أنَّ الإنسان الذی تنتهی حیاتهُ كما جرى على الحسین خَسِرَ فی المُعادلة؟ ولم تكن خطوتهُ مواكَبَةً للعقلانیة؟ بتصوری فإنَّ مثلَ هذا التفسیر تفسیرٌ خاطئ.
وهناكَ رأیٌّ آخرَ یقولُ: إننا نقومُ بالمشاركة فی العزاء بُغیةَ العبادة والتقرُّب إلى الله والحصول على الثواب الأخروی، ولا علاقة لنا فی الحكمة الموجودة فی عاشوراء. وهذا أیضاً رأیٌّ مُنحَرِفٌ. وعندما یسألُ أصحاب هذا الفكر عن واقعة عاشوراء یقولون لك: لقد كانت واقعة الطف عبارةً عن حرب عصاباتٍ خَسِرَ فیها معسكر الحسین، لقد كانَ الحسین كجیفارا انْتَفَضَ ضدَّ الظلم، لقد كانت حِساباتهُ سیاسیةً ومادیَّةً وتوسُّعیَّة، وهكذا یُحوِّلونَ الحسین علیه السلام إلى ثوریٍّ ینتفضُ ضدَّ حكومات الظلم ویُقْتَلْ.
لقد كانَ هذا النوع من الفكر رائِجاً قبلَ انتصار الثورة وبدایتها، وذلكَ عندما كانَ الناسُ متأثرین بالثقافة الماركسیة خاصةً الفدائیة منها، وكانَ جزءٌ من أدب التنویر الدینی الخاطئ لا التنویر الدینی الصحیح قبلَ الثورة، خلیطاً من ثقافةٍ محلِّیَةٍ إسلامیة وثقافةٌ غربیة.
یقولُ هذا الرأی إنَّ عاشوراء كانت عبارةً عن دماءٍ وجهادٍ سیاسیٍّ وأمثال ذلك، هذا ظاهرُ عاشوراء، أمَّا باطنهُا فلم یكن كذلك، إنَّ أصلَ عاشوراء هو حالةٌ من العرفان. لقد كانَ أصل ُعاشوراءَ روحانیاً وتَقرُّباً إلى الله، وأداءً للواجب الإلهی، وكانَ من أجل الشریعة وكانَ هذا جُزءً من الثورة الحُسینیة. لم یكن الإمام سیاسیاً فی كربلاء وحَسب، كما لم یكن أسطورةً وعبادة. لقد كانَ الإمام الإثنین معاً.
وهذا إفراطٌ من نوعٍ آخر، فإفراطٌ یقول أنّه لیست هناكَ أیَّةُ علاقةٍ بینَ عاشوراء وكربلاء من جهةٍ مع عالَم الواقع والسیاسة والعدالة والحكومة، وأن لا علاقة للإسلام بالحكومة، ولا علاقة لِعاشوراء بالحكم، وأنَّ الحسینَ علیه السلام لم یرد أصلاً الحكومة الإسلامیة، وأنَّ الحسینَ أرادَ هكذا أن یموتَ، كی یجلسوا ویندبوا قَتْلَه.
وهناكَ من یقولُ إنَّ الحسین قُتِلَ من أجل السیاسة وإقامة الحكومة الخاصة به، وهم فی ذلك ینسونَ الأمورَ الروحانیة والتقوى والعشق والآخرة والقیم الإلهیة والدینَ، أی أنَّ الحسین كانَ مُناضِلاً وحَسب، أی أنَّ الإسلامَ یتجلى فی السیاسة. أمَّا القضایا الاجتماعیة والروحانیة والأخلاق والتقوى والعرفان لا علاقة لها بالإسلام وهذان المسیران مُنحَرِفان.
أمَّا الثالث فیربطُ الحسین بالفكر المسیحی، وأمَّا الثانی فهوَ الحسین المُناضل دونَ روحانیاتٍ أو اندفاعٍ دینی ودونما توحیدٍ ومَعَادْ. فی حین أننا نرى أنَّ الإمام الحسین علیه السلام وأصحابه عاشوا لحظات عاشوراء والتاسع من مُحرَّم فی أجواءٍ مُفعَمةٍ بالروحانیة والتقوى والعبادة والتقرب إلى الله وكُلَّ ما نقولُ عنهم كانَ كلاماً حولَ الأجر الإلهی.
وفی ذات الوقت تحدَّثَ الإمام عن العدالة والسیاسة والحكومة وحقوق الإنسان والتكلیف. وهناكَ قِراءةٌ أُخرى فی الحسین والذی یبدو فیها دیموقراطیاً هنا، هذه من الطُروحات التی جاءت بعدَ انتصار الثورة، ومازالَ بعضُ مُروِّجی هذه الأفكار یطرحونها. إنهم یقولونَ هل تعلم لماذا ذهبَ الإمام الحسین إلى كربلاء والكوفة؟ فهوَ لم یُرِدْ أن یُقتَلْ، وهوَ لم یدری أنه سیُقْتَل، وهنا یُنكِرونَ عِلمَ الإمامة، فی حین أنه هناك الكثیر من الروایات تقول إنَّ الإمام الحسین علیه السلام عندما ولِدَ بَكَاهُ الرسول، وكانَ أوَّلَ من بكى الإمام الحسین علیه السلام، وفی الروایة أنَّ الرسول صلى الله علیه وآله عندما بكى، سأَلَته فاطمة سلام الله علیها: مما بُكاؤكَ یا أبَتاه؟ فقال: إننی أرى مَصْرَعهُ حیثُ یتقلبُ فی لُجِّهِ من الدماء، إننی أرى ذلكَ الآن.
الإسلام والدیموقراطیة
وهذا الطیف الثالث یدَّعی أنَّ الإمام لم یكن یعرف أنهُ سَیُقْتَلْ، إنَّ الرجُلَ كانَ ینوی العملَ وفقَ المبادئ الدّیمُقْراطیة، بایَعَهُ الناس، وإنَّ أكثریة أهل الكوفة بایعوه، وعلیه فإنَّ بإمكانهِ الرحیل إلى هناك من أجل تشكیل الحكومة، وعندَ وصُوله إلى كربلاء بالقرب من الكوفة، انقلبت الأوضاع ونَكَثَ الناسُ عن بیعتهم للحسین، وهنا یؤَاخْذهم على فعلتهم، ویقول لهم: لقد جئتُ إلى هنا لأنَّكم خاطبتمونی، لماذا فعلتم بی هذا؟ ولهذا فإنَّ مشروعیتی قد سقطت، لأنی قد أصبحتُ فی أقلیَّةٍ ویزید وأعوانهُ فی أكثریةٍ من أمرهم. هكذا تقول الدیمقراطیة، الحكمُ للأكثریة!
ألیسَ كذلك؟ وعلیه فإنَّ مجیئی إلى عاشوراء لیسَ دیمقراطیاً، اسمحوا لی بالعودة. ولأنَّ الإمام یعلمُ أنَّ هؤلاء لن یسمحوا له بالعودة، دعا علیهم وقالَ: أدعو الله أن یُنزِّلَ علیكم العذاب فی الدنیا والآخرة. لقد أعلنتم استعدادكم للحرب والجهاد، وإقامة حاكمیة الإسلام ثُمَّ نكثتم. ولم یَقُلْ أنهُ لا یملكُ حقَّ الحاكمیة، وعلیه ونظراً لخیانتكم وعدم استحقاقكم لأن یكونَ الحُجَّةُ فوقَ رؤوسكم، فإننی سأعودُ من حیثُ أتیت. أرادَ الإمام أن یتم الحُجَّة علیهم.
وهذا حسینٌ على أساس القراءة الدیمقراطیة. عاشوراء على أساسٍ لیبرالی. وها هم الیومَ یكتبونَ فی الصحف والمجلات عن الحسین الدیمقراطی الذی یكتسب قیمتهُ من الدیمقراطیة، أی أنَّ الإسلامَ بحاجةٍ إلى تزكیةٍ من قبل الدیمقراطیة، حتى یكونَ ذا قیمة!
وهنا اسمحوا لی أن أقولَ إنَّ أصحاب المدرسة التی تقول إنَّ الإسلامَ یكسِبُ المشروعیة من الدیمقراطیة لیسوا بمسلمین، ربما كانوا جهلةً أو أُمیین، علیهم أن یعلموا أنَّ الإسلامَ لیسَ ما یقولون. إننا قبلنا الإسلام دونَ حاجةٍ لنا بالدیمقراطیة، وهل یَثْبُتُ التوحید بواسطة الدیمقراطیة حتى نؤمنُ بها؟ وهل یمكن الوصول إلى القیمة والعدالة والمكانة من الدیمقراطیة؟ وهل یتمُّ أخذُ حقائق العالم وقیمتهِ من الدیمقراطیة؟ وهكذا بالنسبة إلى الفضیلة الأخلاقیة والقیَّم. علیه ینبغی أخذُ القیمة للدیمقراطیة من الإسلام، وأن تأخذ الدیمقراطیة قیمتها واعتبارها من التوحید والنّبوة والعقل والعدالة. وإذا وقفت الدیمقراطیةُ مقابل التوحید والعقل والعدالة، فإنَّ هذه الدیمقراطیة لا تعدِلُ عندنا وزنَ بعوضة.
إننا نقبلُ الدیمقراطیة فی إطار الدین، فی إطار التوحید والنبوة، فی إطار العدل والقیم والأخلاق. والدیمقراطیة التی تقف مُقابل القیَّمِ قلتُ لكم لا تعدِلُ عندنا وزنَ بعوضة، ولا فرقَ بینها وبینَ الاستبداد والظلم، وعلیه فلا فرقَ بین الدیمقراطیة والاستبداد من هذه الناحیة. ربما كانَ الظَّلمُ من قِبَلِ شخصٍ، وربما كانَ من قبل مجموعة باسم الدیمقراطیة، وربما كانَ من حزب.
والمسلم عبدُ الله لا عَبدَ الدیكتاتور ولا عبدَ الدیمقراطیة وعلیه فإننا نحترمُ الدیمقراطیة وحقَّ الحاكمیة والمشروعیة فی إطار الإسلام ولا غیر. وإذا ما اتفقَ فی زمانٍ ما فی التاریخ، إذا قررت أكثریةُ سكان الأرض بملیاراتهم رفضَ التعالیم السماویة فإنَّنا لن نستسلم للدیمقراطیة، ونُركِنَ الإسلامَ جانباً، لأنَّ أكثریةَ العالم هم غیرُ مسلمین. ولكن ربما تقول إنَّ الإسلام سیكون قابلاً للتطبیقِ عندما تفهمه الأكثریةُ، وتقبل به، لكن ما العمل وقد رفضته الأكثریة وعارضتهُ؟ ومن خلال ذلكَ نتوصَّلُ إلى أنَّ الأمرَ غیرُ قابلٍ للتطبیق على الأرض، لیسَ لأنهُ لا اعتبارَ أو قیمةً لهُ، بل لأنهُ غیرُ قابلٍ للتطبیق مثل الكثیر من الأمور، وهناك الكثیر من الناس المرضى یحملونَ الوصفة الطبیة، لكن لا إمكانیة لِشراء الدواء من الناحیة المادیة، علیه یَتَوفَّى هؤلاء هذا لا یعنی أنَّ الوصفة غیرُ مجدیة، وعلیه فإنَّ المریضَ یتوفَّى.
وهناك تعبیرٌ لطیفٌ جداً یقول: إنَّ المجتمع الذی رَفَضَ حكم الإمام علی علیه السلام، وأرْكَلَ الإمام لم یحرم الإمام علی من كونه علیَّا، بل حَرَمَ نفسهُ من مُصاحبة علیٍّ.
إنَّ المجتمع الذی رَفَضَ حُكمَ الإمام لمدة عشرین عام ونیّف، یلیقُ به أن یكونَ طیّعاً لِأمثالِ معاویة ویزید وبنی أمیة وبنی العباس. إنَّ المجتمع الذی یكون على هذه الشاكلة، سیحرم نفسه من وجودِ علیٍّ لا محالة.
المصدر:رابطة الحوار الدینی للوحدة
مطالب مشابه